لماذا الناس لا يحبون سماع الحقيقة

 لماذا الناس لا يحبون سماع الحقيقة، الحقيقة تزعل، الناس لا تحب الحقيقي والبسيط، الحقيقة مؤلمة، الصراحة والوقاحة، الصراحة راحة، بين الصراحة والوقاحة خيط رفيع.

"لماذا لا يحب الناس سماع الحقيقة؟"

تحقيق واقعي، يعتمد على ملاحظات من الحياة اليومية، وأصوات ناس عاديين، يعيشون هذا السؤال كل يوم:
لماذا يفضّل البعض الكذب اللطيف على الصدق الخشن؟ ولماذا يتحول من يقول الحقيقة، حتى لو بلطف، إلى شخص منبوذ أو مزعج؟

تحقيقات...

"أنا قلت الحقيقة... فخسرت أصدقائي"

شاب في أوائل الثلاثينات، قال بصوت فيه بعض التردد:
"كنت أعتقد أن الناس تقدر الصراحة... إلى أن جرّبت أن أكون صريحًا فعلًا."
يحكي عن موقف بسيط:
أحد أصدقائه طلب رأيه في مشروع جديد، فأعطاه رأيه بصراحة، قائلاً إن الفكرة غير واضحة وتحتاج تطويرًا.
"من يومها، تغيرت العلاقة. صار يتجنبني، رغم أنني لم أقل شيئًا جارحًا. فقط قلت الحقيقة."

ليست هذه قصة واحدة. كثيرون تحدّثوا عن تجارب مشابهة، حيث تحوّل الصدق إلى سبب للخلاف، أو على الأقل، للنفور.

فتاة تعمل في مجال التصميم تقول:
"الناس يطلبون رأيك، لكن في الحقيقة يريدون مجاملة. لا أحد يريد أن يسمع أن لونه لا يناسبه، أو أن طريقته فيها خطأ."

عندما سألنا الناس لماذا يتجنبون قول الحقيقة أو سماعها، جاءت الإجابات متشابهة:
"لأنها توجع."
"لأن الناس حساسة."
"لأن الحياة أصلًا ثقيلة، والصدق يزيد الثقل."

ويبدو أن الحقيقة، حتى لو قيلت بنية طيبة، تُحمّل غالبًا بنيّة هجومية.

موظف قال:
"أنا أقول الحقيقة في العمل، لكن تعلمت أن أقولها بشكل غير مباشر، أو لا أقولها أصلًا. لأن الصراحة هنا تُحسب ضدك، مش لصالحك."

وفي محيط العلاقات الاجتماعية، الأمر أكثر تعقيدًا.
تقول امرأة في منتصف الثلاثينات:
"الناس تحب من يبتسم لهم، لا من يصحّح لهم. يحبون من يقول لهم إنهم على حق، حتى لو لم يكونوا كذلك."


 "الصراحة تجرح... حتى لو كانت صحيحة"

سألنا مجموعة من الأشخاص:
"لماذا تنزعجون عندما يقول لكم أحد الحقيقة؟"
لم يكن السؤال مريحًا، لكن الإجابات جاءت واضحة:

شاب في العشرينات قال:
"مش لأن الكلام غلط، بل لأنني مش جاهز أسمعه. أحيانًا أعرف الشيء عن نفسي، بس لما حد يقوله لي بصوت عالي، بحس إنه فضحني."

فتاة أضافت:
"لما حد يقول لي شيء سلبي عن شكلي أو سلوكي، حتى لو كان محق، بحس إنني تحت تقييم. كأنه ما شاف فيّ إلا الخطأ."

في الواقع، كثيرون يربطون بين "قول الحقيقة" و"الهجوم الشخصي"، حتى لو لم يكن القصد كذلك.
الصدق لا يُسمع وحده، بل يُفهم ضمن سياق: من قاله؟ لماذا قاله؟ وفي أي لحظة؟

رجل يعمل في خدمة العملاء قال:
"أنا ما أحب أحد يقول لي الحقيقة لو كنت في حالة سيئة. مش وقتها. الناس لازم تفهم التوقيت، مش كل صراحة في وقتها مفيدة."

العديد من الناس لا يرفضون الحقيقة كمبدأ، لكنهم يرفضون طريقتها أو لحظتها.
وبعضهم يراها ببساطة غير ضرورية.

امرأة في الخمسين قالت:
"مش لازم أسمع الحقيقة عن وزني أو شكلي أو تصرفاتي طول الوقت. أنا أعيش بجهدي. المجاملة أحيانًا راحة."

وهنا يظهر فرق كبير بين "الحقيقة من أجل المساعدة" و"الحقيقة من أجل التقييم".
فالناس تتحمل الأولى، وتكره الثانية.


"من يقول الحقيقة... يُتّهم بأنه وقح"

شاب في الثلاثين من عمره قال بوضوح:
"صرت أكره أكون الشخص اللي 'بيقول الحقيقة'، لأنه دايمًا ينتهي بي الموضوع وكأني قاسي أو لا أراعي مشاعر الناس. حتى لما أقولها بلطف."

كثيرون عبّروا عن نفس الإحساس:
رغبتهم في الصدق لا تعني رغبة الآخرين في سماعه، ومع الوقت، يشعرون بأنهم يدفعون ثمنًا اجتماعيًا مقابل موقف صريح.

فتاة تعمل في التعليم قالت:
"حتى في بيئة التعليم، لو قلت لطالب أو لزميل إن هناك خطأ ما، تأخذ الأمور طابعًا شخصيًا. كأنك تهاجم، لا توضح."

وفي بعض الحالات، يتحوّل من يعتاد على قول الحقيقة إلى "شخص يجب تجنّبه"، لأن وجوده يربك الآخرين، ويجعلهم في حالة توتر دائم.

رجل في منتصف الأربعينات، قال:
"أصدقائي يغيرون الحديث إذا كنت موجودًا. لأنهم يتوقعون أنني سأعلّق أو أقول رأيي. وهذا صار يضايقني، رغم أني لا أتكلم إلا إذا طُلب رأيي."

والغريب، كما لاحظنا من أكثر من مقابلة، أن بعض هؤلاء "الصريحين" يُستشارون في الأزمات فقط.
يقول أحدهم:
"الناس تلجأ إلي لما تصير مشكلة حقيقية، بس ما تطيق رأيي في الأيام العادية."

وهذا يعكس مفارقة مهمة:
الناس تثق بآراء الصادقين، لكنها لا ترتاح لهم دائمًا.
كأنهم احتياطي للطوارئ، لا رفاق يوميات.


 "الصدق... فنّ أم صدمة؟"

سألنا سيدة في أواخر الثلاثينات، تعمل في إدارة الموارد البشرية:
"كيف تقولين الحقيقة في عملك دون أن تسيء لأحد؟"
قالت:
"تعلمت مع الوقت أن هناك فرقًا كبيرًا بين الصراحة المباشرة، والصراحة الذكية. التوقيت مهم، والطريقة أهم."

ويبدو أن هذه الفكرة تكررت كثيرًا:
الناس لا ترفض الحقيقة كمبدأ، لكنها ترفض طريقة تقديمها إذا كانت قاسية، أو مفاجئة، أو في وقت غير مناسب.

شاب يعمل في مجال الإعلام وصف الأمر بدقة:
"الصدق مش دايمًا لازم يكون كامل. أحيانًا جزء من الحقيقة يكفي، والباقي يوصلك الناس مع الوقت."

امرأة أخرى، تعمل كمدرّبة تنمية بشرية، قالت:
"الصراحة الحقيقية هي اللي تخلّي الشخص يراجع نفسه دون ما يكرهك. وهذا يتطلب وعي وذكاء عاطفي، مش بس نية طيبة."

هناك أيضًا من يرى أن قول الحقيقة يجب أن يكون مرتبطًا بطلبها.
شاب قال:
"لو ما حد طلب رأيك، لا تعطيه. لأن الناس ما تجهّز نفسها دائمًا لسماع شيء صعب. لما يسألك شخص بصدق، هنا تكون الصراحة مقبولة أكثر."

وهذا يعيدنا إلى نقطة مهمة: الحقيقة ليست دائمًا المشكلة، بل السياق الذي تقال فيه.

البعض يرى أن الصدق هو قول ما يجب، بصرف النظر عن النتيجة.
لكن الواقع يفرض توازنًا:
قول الحقيقة بأسلوب جاف قد يحقق نتيجة عكسية.
أما قولها بلطف، في الوقت المناسب، فقد يجعلها تُفهم، وتُقبل.


"هل نحن جاهزون للصدق؟ أم أن المجاملة أصبحت فرضًا اجتماعيًا؟"

في نهاية المطاف، نجد أنفسنا أمام حقيقة بسيطة:
نحن نعيش في مجتمع يبحث عن راحة نفسية.
صحيح أن كثيرًا من الناس يُقدّرون الصدق، ويؤمنون بأهميته، لكننا في واقعنا اليومي، غالبًا ما نفضّل المجاملات، حتى لو كانت مجرد إخفاء للعيوب.

قال أحدهم في حديثه عن علاقات العمل:
"في النهاية، لا يهم كم أنا صريح. ما يهم هو كيف سأحافظ على علاقتي مع الآخرين. أقول الحقيقة، لكنني أراعي مشاعرهم أولًا."

ما تكشفه هذه الإجابة هو أن المجاملة أصبحت نوعًا من التعايش الاجتماعي الضروري.
هي توازن غير مكتوب بين الصراحة والمجاملة، حيث تُختار المجاملات في أغلب الأوقات للحفاظ على السلام الاجتماعي.

رغم أن المجتمع يشجع على الصراحة في المواقف الصعبة، إلا أن الحقيقة غالبًا ما يتم تحريفها أو تجنبها في الحياة اليومية.
ولا عجب في ذلك، حيث تشهد حياتنا اليومية ضغوطًا اجتماعية تجعل الناس يفضلون "الصمت عن الصراحة"؛ لأن الصراحة لا تعني فقط إخبار الشخص بما لا يريد سماعه، بل تتطلب أيضًا تحمّل ردود الفعل الناتجة عنها.

وأخيرًا، يمكننا أن نستنتج أن المجاملة ليست "كذبًا" بقدر ما هي تكيّف اجتماعي.
في الكثير من الأحيان، تصبح المجاملة أكثر "أمانًا" من الحقيقة. هي وسيلة للبقاء ضمن دائرة العلاقات الآمنة دون تعريض النفس للانتقاد أو للتحديات غير الضرورية.


الخاتمة:

الصراحة من وجهة نظر الكثيرين، ليست مجرد حديث مباشر عن الحقائق، بل هي فنٌ يتطلب فطنة، توقيتًا دقيقًا، وطريقة ذكية في إيصال الرسالة.
ورغم أن الحقيقة تُعد أساسية في بناء الثقة والعلاقات المتينة، يبقى أن الناس، في سياق حياتهم اليومية، يفضلون غالبًا المجاملة، لأنهم ببساطة لا يقدرون دائمًا تأثير الحقيقة على راحتهم النفسية، ويفضلون السلام الداخلي على مواجهة التحديات التي قد تطرأ نتيجة الصراحة.

هل سنصل إلى يوم يتقبل فيه الجميع الصدق بكل أبعاده؟
ربما. لكن في الوقت الحالي، تظل المجاملة هي لغة العصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق